لقد انتشر العنف العائلي في مجتمعاتنا انتشار النار في الهشيم. مما كان له نتائج سيئة وانعكاسات سلبية على الأسرة والمجتمع.
فيا ترى ما هي أسباب هذا الانتشار؟ وما هي أهم الحلول للحد من انتشاره؟
وهذا ما سأتناوله في هذه المقالة.
1-من أسباب العنف العائلي:
يمكن لنا أن نجمل أهم أسباب العنف العائلي فيما يلي:
- البعد عن هدي القرآن والسنة النبوية الشريفة وأخلاق السيرة النبوية العطرة.
- انهيار التربية على الإسلام وأخلاقه ورحمته ورفقه..
-الانحرافات الأخلاقية: تناول المسكرات والمخدرات يؤجج الخلافات العائلية ويؤدي إلى العنف.
- البيئة الفاسدة التي تصور العنف وكأنه أمر طبيعي..
- البيئة التي يسود فيها العنف (الأسرة-المجتمع) ، فانطبع ذلك في ذهنيته مما يجعله عرضة لممارسة العنف في كبره.
-بعض التصورات الخاطئة الناتجة عن سوء التربية التي تتصور أن استخدام العنف يجعل المرأة الزوج أكثر طاعة وانقيادا، أو تتصور ارتباط العنف بالرجولة والشهامة.
-بعض الأمراض النفسية التي تفقد الزوج عقله.
-البطالة، والفقر، وغلاء الأسعار، وتوتر أعصاب الكثير من الأزواج...
-التأثر بمشاهدة الأفلام العنيفة.
- سعي بعض أقارب الرجل الزوج... أو المرأة الزوج للإفساد ما بين الزوجين. وقد شدد سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم النكيرَ على من حاول إضرام النار ليفسد ما بين الزوجين. روى الإمام أبو داود عن أبي هريرة رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«من خَبّبَ زوجة امرئ أو مملوكة فليسمنا». خبب: أي أفسَد. بأي وجه كان ذلك الإفساد.
-استفزاز المرأة لزوجها ومحاولة التقليل من شأنه واحتقاره وانتقاد تصرفاته أمام الآخرين مما يدفعه إلى الانتقام والعنف.
ولسبب من الأسباب السابقة تجد الكثير من "الرجال" يأخذ زوجه بالظنة ويتهمها بمجرد تحسس وتوجس، ومنهم من يتخذ بعض التفاسير لنصوص شرعية متكأ لإظهار شجاعته وقوته فيقرأ في بعض التفاسير أو يسمع من بعض المفسرين"أن بعض الفقهاء يجيزون الضرب ما دون كسر العظام"، فيمزق ويضرب ويشتم دون أن يكسر لها عظما!. ويقرأ أو يسمع عن طاعة الزوجة لزوجها فيلوي عنق النص فيتأله ويظلم ويشتم، فتنقَلِبُ العشرة الزوجية من معاني المحبة والمودة والرحمة إلى علاقة الجلاد بضحيته، والمالك في ملكه.
أو تجد "الرجل" ممن لا يظهرون قوتهم وشجاعتهم إلا في بيوتهم فيأتي مشحونا من الخارج (الغضب، سوء تصرف مدير عمله معه...) فيفرغ شحناته في بيته مع زوجه وأولاده.
أو تجده ممن يحصون أخطاء زوجته فينتفخ انتفاخ الهر لمجرد تغير ذوق طعامه فيضرب ويعنف.
أما المرأة العنيفة التي انساقت وراء هواها وتخلت عن شريعة ربها...فإن عنفها ناتج عن مرض في نفسها أو للتربية غير السليمة التي تلقتها، أو أنها عاشت في أسرة عنيفة وبيئة فاسدة، أو أنها صاحبة جاه ومال، أو أن شخصية زوجها ضعيفة، أو تكون هي العاملة والمتحملة لنفقات البيت فيدفعها ذلك إلى العنف والطغيان، أو قد يكون عنفها بسبب رد فعل، أو لما تشاهده في الأفلام فتتأثر بالنساء القويات، إضافة إلى وجود بعض حالات الانحراف (تناول المسكرات والمخدرات)...
2-العنف العائلي أنواع:
يمكن تقسيم العنف العائلي إلى الأنواع الآتية:
أ- العنف النفسي: وهو الذي يتعلق بالأذى النفسي: كالسب والشتم والإهمال والإيذاء العاطفي، والتحقير، وسوء الظن، والتخويف، والتهديد بالطلاق، والإحباط، وإجبار الفتاة على الزواج دون رضاها،... فهذا النوع من العنف يحطم شخصية الفرد ويزعزع ثقته بنفسه وينقص من قدراته...
ب- العنف الجسدي : وهو الذي يتعلق بالأذى الجسدي وتتنوع أساليبه وأشكاله بين: الضرب، والركل، واللكم، وشد الشعر، والصفع، والدفع، وخدش الوجه، وتكسير العظام، وإسالة الدماء، وتمزيق الجلد، والخنق،...
ت- العنف الجنسي: كإجبار الزوجة على الاتصال الجنسي، أو التهديد بالقوة لتحقيقه، أو استخدامه للإيذاء، أو الهجر من قبل الزوج، أو إجبارها على القيام بأفعال جنسية لا تقبلها، أو إجبارها على ذلك وهي حائض...
3-النتائج الوخيمة للعنف العائلي:
إن العنف العائلي يشل حركة الأسرة، ويجعل من الصعب على أعضائها القيام بمهامهم، إضافة إلى ما يسببه من أمراض نفسية وجسدية سواء للمعنف عليه أم الأطفال الذين يشاهدون ذلك: أمراض الصدر، الشعور بالخوف، الشعور بالفشل والإحباط...
أما المرأة المعنفة فإن عنفها يجعلها غير قادرة على تربية أبنائها تربية سليمة، وقد تجنح إلى ضرب أبنائها وكراهيتهم...
وعليه، فإذا كانت العشرة الزوجية جحيما لا يطاق، وإذا كان البيت يسوده التناطح والعنف والظلم... فالنتيجة واضحة كما رأينا ذرية ضعيفة معوقة... والذي لا يرضَى أن تكون ذريته هكذا ومريضة نفسيا، فليحسن معاشرته لأهل بيته ويكون قدوة لأبنائه... والذي لا يحب تلك الصفات الرديئة الدنيئة في أبنائه فليعمل على تلافي أسباب تكونها في بيئته. يفعل ذلك رحمةً بأبنائه وذريته من بعده.
4-الإسلام ينبذ العنف بكل أنواعه وأشكاله:
إن من مبادئ الإسلام الرحمة والرفق والعنف يتعارض مع هذا المبدأ السامي، لذلك يرفض الإسلام العنف بكل أشكاله وأساليبه وأنواعه المادية والمعنوية داخل الأسرة وخارجها: يقول الله عز اسمه: (قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ)، (سورة البقرة: 263) ويقول الحق جل وعلا : (وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ) (يورة آل عمران: 159)، ويقول الله تقدست كلماته: (وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا)(سورة الإسراء: 23).
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (عليك بالرفق وإياك والعنف والفحش)( رواه الإمام البخاري عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، في صحيحه، كتاب الأدب ، باب لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم فاحشا ولا متفحشا).
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (علموا ولا تعنفوا فإن المعلم خير من المعنف)( مسند الحارث، كتاب العلم، باب حسن التعليم).
وعَنْ عَائِشَةَ أم المؤمنين رضي الله عنها زَوْجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «يَا عَائِشَةُ إِنَّ اللَّهَ رَفِيقٌ يُحِبُّ الرِّفْقَ وَيُعْطِى عَلَى الرِّفْقِ مَا لاَ يُعْطِى عَلَى الْعُنْفِ وَمَا لاَ يُعْطِى عَلَى مَا سِوَاهُ» ( رواه الإمام مسلم في صحيحه، كتاب البر والصلة والآداب، باب فضل الرفق).
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لاَ تَضْرِبِ الْوَجْهَ وَلاَ تُقَبِّحْ»(رواه الإمام أحمد في مسنده عن بهز بن حكيم عن أبيه عن جده).
وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- «الرَّاحِمُونَ يَرْحَمُهُمُ الرَّحْمَنُ، ارْحَمُوا مَنْ فِي الأَرْضِ يَرْحَمْكُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ، الرَّحِمُ شُجْنَةٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَمَنْ وَصَلَهَا وَصَلَهُ اللَّهُ وَمَنْ قَطَعَهَا قَطَعَهُ اللَّهُ». (رواه الإمام الترمذي في سننه، كتاب البر والصلة، باب ما جاء في رحمة المسلمين).
ولذلك فالعنف يعارض روح القرآن الذي يحض على الرحمة، ويعارض سنن سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم القولية والفعلية عن الرحمة والرفق.
والعنف يتعارض مع الضروريات الخمس التي جاءت الشريعة الإسلامية الغراء لحفظها: حفظ الدين، وحفظ النفس، وحفظ العرض والنسل، وحفظ العقل...
عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا الْقَاسِمِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «لاَ تُنْزَعُ الرَّحْمَةُ إِلاَّ مِنْ شَقِيٍّ». (حديث حسن، رواه الإمام الترمذي، في سننه، كتاب البر والصلة، باب فيما جاء في رحمة المسلمين).
5-ما هو الحل إذن:
لابد لكل أسرة من سند تعتمد عليه، ومرجع تصوغ منه حياتها، وليس ذلك إلا القرآن الكريم، ولابد لها من أنموذج تحذو حذوه، ومن منوال تنسج عليه، وليس إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم في سيرته وتخلقه بالقرآن الكريم، فهو قدوتنا وأسوتنا وقوتنا، وهو روح ونور ورحمة وفضل. وهو أنموذج خالد لكل من يبحث عن السعادة الخالدة له ولأسرته، ما عليه إلا أن يسير على المنهاج النبوي في المعاشرة الزوجية، ويتأسى بسيد الوجود صلى الله عليه وسلم في معاملته لأهل بيته.
روى الإمام مسلم وأبو داود عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها زوج النبي صلى الله عليه وسلم أنها قالت: "ما ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا قطُّ بيده، ولا امرأةً، ولا خادِما. إلا أن يجاهد في سبيل الله. وما نِيلَ منه شيء قط فينْتَقِمَ من صاحبه، إلا أن يُنتَهَكَ شيء من محارم الله فيَنتَقِمَ."
يقول الله عز اسمه: (وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ)(سورة الروم: 21).
الزواج ألفة وقرب، مودة ورحمة، سكن ومحبة، بهذا يتحقق الاستقرار والأنس والاطمئنان وفي هذا الوسط يتربى الأبناء، فتتكَوَّن بذلك أُترُجة الأسرة وريحانة المجتمع جيل المستقبل وأمجاد الأمة وأبطالها.
فرباط المحبة والرحمة والرفق والحنان هو الذي يجمع القلوب ويوثق الصلات ويسعد الحياة.
(خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا): المرأة الزوج جزء من الرجل الزوج، وكل جزء دليل على أصله فالمرأة دليل على الرجل، والرجل دليل عليها، فحب الزوج لزوجته وحنينه إليها من باب حنين الكل إلى جزئه، وحب المرأة لزوجها من باب حنين الجزء إلى الكل... وهكذا يتحقق بينهما التكامل.
و(خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا): من جنسكم لا من جنس آخر أزواجا ذكرا وأنثى. ليألف كل واحد منكما صاحبه ويميل بعضكم إلى بعض، فإن الجنس إلى الجنس أميل، والنوع إلى النوع أكثر ائتلافا واستئناسا وراحة؛ فالاشتراك في الجنسية من أسباب التآلف. وكما يقال:"إن الطيور على أشكالها تقع". وجعل بينكم التواد والتراحم بسبب الرباط الشرعي رباط الزواج.
- تفعيل التشريعات التي تحمي من العنف الأسري وتبسيط إجراءات التقاضي بما يحقق الإسراع في إغاثة الملهوف.
- تفعيل دور الحكمين إن كان في دورهما مصلحة وإنقاذ للغريق، عملا بقول الله تعالى: (وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا) (سورة النساء: 35).
-تأسيس مؤسسات اجتماعية إسلامية تهتم بقضية العنف العائلي، وتحاول القضاء على أسبابه، وتهتم بالضحية وتخفف من آلامها ومعاناتها...
-الرقابة على الإعلام واستغلاله لتوعية الأسر بالنتائج الوخيمة للعنف على الأسرة والمجتمع، وتقديم الدواء الناجع للمشكلات الزوجية والحد من أسباب انتشار العنف، ونشر الثقافة الضرورية حول الحياة الزوجية والحياة الجنسية قبل الزواج وبعده لا لنشر أفلام العنف التي تسهم في العنف العائلي...
- بذل الجهود لتفادي بعض الأسباب الداخلية الموصلة إلى العنف العائلي.
وخلاصة القول:
ولنا في سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إسوة حسنة؛ روى الإمام ابن سعد رحمه الله في طبقاته أنه صلى الله عليه وسلم أرسل وصيفة له فأبطأت، فقال: «لولا القصاص لأوجعتك بهذا السواك!» تهديد فقط وبالسواك! ما يوجع السواك وما يؤلم يا من يفتي بضرب المرأة ضربا لا يكسر العظام؟
ومن يريد أن يبني أسرته على غير أساس الإسلام وأخلاقه كمن يروم أن تلد له الفأرة غزالا!
د.رشيد كهوس
المقال نشر في جريدة المحجة: العدد:396، 18ربيع الثاني1434هـ-01 مارس 2013.