لقد أمد الله تبارك وتعالى أمة الإسلام بأعياد جمعت خيري الدنيا والآخرة، وهي أيام عبادة وشكر، وفرح وسرور؛ فليست أعياد المسلمين مجرد عبادة أو مجرد عادة، وإنما هي أعياد خير مميزة للأمة جُمِع فيها بين طاعة علام الغيوب، ومغفرة الذنوب، وبحبوحة القلوب، فيما أباحه الله تعالى. روى الإمام أحمد في مسنده وأبو داود والنسائي في سننيهما عن أنس رضي الله عنه قال: قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة ولهم يومان يلعبون فيهما، فقال: ((ما هذا اليومان؟)) قالوا: كنا نلعب فيهما في الجاهلية، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله قد أبدلكم بهما خيرا منهما يوم الأضحى ويوم الفطر)). فأبدل الله تعالى هذه الأمة بيومي اللعب واللهو يومي الذكر والشكر والمغفرة والعفو؛ ففي الدنيا للمؤمنين ثلاثة أعياد: عيد يتكرر فهو الجمعة، وهو عيد الأسبوع، وهو مرتب على إكمال الصلوات المكتوبات. روى الإمام أحمد وابن خزيمة عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((ما طلعت الشمس ولا غربت على يوم خير من يوم الجمعة هدانا الله له وأضل الناس عنه، فالناس لنا فيه تبَعٌ، هو لنا، ولليهود يوم السبت وللنصارى يوم الأحد، إن فيه لساعة لا يوفقها مؤمن يصلي يسأل الله عز وجل شيئا إلا أعطاه)). فهذا عيد الأسبوع، وهو متعلق بإكمال الصلوات المكتوبة، وهي من أعظم أركان الإسلام بعد الشهادتين. وأما العيدان العظيمان الذي يأتي كل واحد منهما في العام مرة واحدة، فأحدهما عيد الفطر من صوم رمضان، وهو مرتب على إكمال صيام رمضان، وهو الركن الثالث من أركان الإسلام، فإذا استكمل المسلمون صيام الشهر الفضيل المفروض عليهم، واستوجبوا من الله المغفرة والرحمة والعتق من النار؛ شرع الله لهم عقب إكمالهم لصيامهم عيدا يجتمعون فيه على شكر الله وذكره وتكبيره على ما هداهم له، وشرع لهم في هذا العيد الصلاة والصدقة، وهو يوم الجائزة: يستوفي الصائمون فيه أجر صيامهم، ويرجعون من عيدهم بالمغفرة. والآخر عيد الأضحى، وهو أكبر العيدين وأفضلهما، وهو مرتب على إكمال فريضة الحج التي هي من أركان الإسلام، فإذا أكمل المسلمون حجهم غفر لهم. وبما أن حديثنا هنا عن عيد الفطر، فلابد أن نذكر أهم أحكامه وآدابه ، وهي كالآتي: - صدقة الفطر: لحديث ابن عمر رضي الله عنهما قال : "فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر من رمضان صاعاً من تمر، أو صاعاً من شعير، على العبد والحر، والذكر والأنثى، والصغير والكبير من المسلمين. وأمر بها أن تؤدى قبل خروج الناس إلى الصلاة " [رواه الإمام البخاري في صحيحه]. والحكمة منها: ما رواه عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال : "فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر طهرة للصائم من اللغو والرفث، وطعمة للمساكين. من أداها قبل الصلاة فهي زكاة مقبولة، ومن أداها بعد الصلاة فهي صدقة من الصدقات " [أخرجه أبو داود وابن ماجة بسند حسن]. أما وقت إخراجها: فقبل العيد بيوم أو يومين.. فعن نافع مولى ابن عمر رضي الله عنهما أنه قال في صدقة التطوع: "وكانوا يعطون قبل الفطر بيوم أو يومين" [أخرجه الإمام البخاري في صحيحه]، وعند أبي داود بسند صحيح: "كان ابن عمر يؤديها قبل ذلك باليوم واليومين". وهناك من جوزها قبل العيد بأيام، مراعاة لحاجة الفقراء والمساكين. أما الذي يمنع إخراج الزكاة نقدا ويفتي بعدم جواز ذلك، فهذا جاهل بفقه الواقع وبروح الشريعة ومقاصدها من زكاة الفطر... فمن مقاصد زكاة الفطر إغناء الفقراء والمحتاجين، وفي وقتنا الحالي لا يتحقق الإغناء بالحبوب والأرز وإنما بالمال، ولذلك فإن إخراج زكاة الفطر نقدا يحقق مصالح الناس في الوقت الحالي أكثر من إخراجها عينا؛ لأن إعطاءها نقدا يحقق للفقراء والمساكين ما يحتاجونه وما يحققونه من مصلحة، على عكس إن أعطيت لهم زرعا أو أرزا أو دقيقا فإنهم يلجئون إلى بيعها بثمن زهيد قد لا يصل إلى ثمنها الحقيقي.. أما في المجتمعات البدوية التي لا تزال تستعمل المواد العينية كالشعير والقمح فيمكن أن تعطى فيها عينا. - الاغتسال والتجمل والتطيب قبل الخروج للصلاة: يستحب الغسل والتطيب والتجمل للعيدين، فقد صح في الموطأ وغيره أَن عبد الله بن عمر –رضي الله عنهما- كان يغتسل يوم الفطر قبل أن يغدو إلى المصلى. وذكر الإمام النووي رحمه الله اتفاق العلماء على استحباب الاغتسال للعيدين. [المجموع شرح المهذب، 5/7]. وأما التطيب والتزين فعن جابر رضي الله عنه قال: كان للنبي صلى الله عليه وسلم جبة يلبسها للعيدين ويوم الجمعة." رواه ابن خزيمة في صحيحه. وروى البيهقي بسند صحيح أن ابن عمر -رضي الله عنهما-كان يلبس للعيد أجمل ثيابه. وقال النووي –رحمه الله-: واتفقوا على استحباب التطيب والتنظيف بإزالة الشعور وتقليم الأظفار وإزالة الرائحة الكريهة من بدنه وثوبه قياسا على الجمعة. [المجموع، 5/7]. - الأكل قبل الخروج للصلاة: من آداب عيد الفطر المبارك أكل تمرات قبل الخروج إلى الصلاة، وذلك لما رواه الإمام البخاري –رحمه الله- عَنْ أَنَسِ بْنِ مالك رضي الله عنه قال: ((كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يغدو يوم الفطر حتى يأكل تمرات.. ويأكلهن وترا)). ومن لم يجد تمرا فليفطر على أي شيء موجود. وروى الترمذي وابن ماجة في سننيهما عن بريدة رضي الله عنه قال: ((كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يخرج يوم الفطر حتى يَطْعَمَ ولا يَطْعَمُ يوم الأضحى حتى يصلي)). - الذهاب إلى الصلاة من طريق والعودة من آخر: عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا كَانَ يَوْمُ عِيدٍ خَالَفَ الطَّرِيقَ. رواه الإمام البخاري في صحيحه. وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: ((كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا خرج يوم العيد في طريق رجع في غيره)). [رواه أحمد والترمذي وابن ماجة]. قيل: الحكمة من ذلك ليشهد له الطريقان عند الله يوم القيامة، والأرض تحدّث يوم القيامة بما عُمل عليها من الخير والشرّ. - التكبير يوم العيد: لقوله عز وجل: ((وَلِتُكْمِلُواْ الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ))[سورة البقرة: 185]، عن الوليد بن مسلم قال: سألت الأوزاعي ومالك بن أنس عن إظهار التكبير في العيدين، قالا: نعم كان عبد الله بن عمر يظهره في يوم الفطر حتى يخرج الإمام. وروى الدار قطني وغيره أن ابن عمر كان إذا غدا يوم الفطر ويوم الأضحى يجتهد بالتكبير حتى يأتي المصلى، ثم يكبر حتى يخرج الإمام. وروى ابن أبي شيبة بسند صحيح عن الزهري قال: كان الناس يكبرون في العيد حين يخرجون من منازلهم حتى يأتوا المصلى وحتى يخرج الإمام، فإذا خرج الإمام سكتوا، فإذا كبر كبروا. وجمهور العلماء على أن التكبير يبدأ من غروب الشمس ليلة عيد الفطر إلى ابتداء الصلاة. ويستحب تثنية التكبير عند الأحناف والشافعية، كما يستحب تثليث التكبير عند المالكية والشافعية وهو المعمول به الآن. واختلف العلماء في صفته على أقوال: الأول : " الله أكبر .. الله أكبر .. لا إله إلا الله ، الله أكبر .. الله أكبر .. ولله الحمد ". الثاني : " الله أكبر .. الله أكبر .. الله أكبر .. لا إله إلا الله ، الله أكبر .. الله أكبر .. الله أكبر .. ولله الحمد ". الثالث : " الله أكبر .. الله أكبر .. الله أكبر .. لا إله إلا الله ، الله أكبر .. الله أكبر .. ولله الحمد " . والأمر واسع في هذا لعدم وجود نص عن النبي صلى الله عليه وسلم يحدد صيغة معينة. أما التكبير في صلاة العيد: فيُكبر سبع تكبيرات مع تكبيرة الإحرام، وستة مع تكبيرة القيام للركعة (أي قبل القراءة). وهذا قول مالك، ومذهب الحنابلة. واختاره هذا القول شيخ الإسلام ابن تيمية، وتلميذه ابن القيم. واستدلوا: بما روي عن ابن عمر أنه شهد الضحى والفطر مع أبي هريرة فكبَرَ في الأولى سبع تكبيرات قبل القراءة، وفي الآخرة ستَ تكبيرات قبل القراءة. [رواه أبو داود والترمذي وابن ماجة في سننهم] . وبما روي عن أم المؤمنين عائشة –رضي الله عنها-: ((أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يُكبّر في الفطر والأضحى في الأولى سبع تكبيرات، وفي الثانية خمس تكبيرات سوى تكبيرة الركوع)). [رواه أبو داود، وابن ماجة، والدار قطني في سننهم، وصححه الألباني في صحيح أبي داود] . - صلاة العيد: لصلاة العيد مكانة عظيمة في الإسلام، فهي من أبواب الصلاح والفلاح، قال الله تبارك وتعالى: ((قد أفلح من تزكى * وذكر اسم ربه فصلى))[الأعلى: 14-15]. وقد واظب رسول الله صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم عليها وأمر بها، وأخرج لها حتى النساء والصبيان، وهي شعيرة من شعائر الإسلام، ومظهر من مظاهره التي يتجلى فيها الإيمان والتقوى. أما عن حكمها: فقد ذهب المالكية والشافعية إلا أنها سنة مؤكدة، وذهب الحنابلة وبعض الشافعية إلى أنها فرض كفاية، أما الأحناف فالراجح عندهم وجوبها، وهو قول عند الشافعي وأحمد. وثبت في الصحيح من حديث أم عطية رضي الله عنها قالت: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نخرج في الفطر والأضحى العواتق والحيض وذوات الخدور، فأما الحيض فيعتزلن الصلاة ويشهدان الخير ودعوة المسلمين. [البخاري ومسلم]. واتفق الفقهاء على أن وقت صلاة العيد من ارتفاع الشمس قدر رمح وحتى زوالها؛ وعلى أن الأفضل تعجيل صلاة عيد الأضحى ليتسع للناس وقت ذبح أضاحيهم، وتأخير صلاة الفطر ليتمكنوا من إخراج صدقاته. - تبادل التهاني: ومن آداب العيد التهنئة التي يتبادلها المسلمون فيما بينهم، وتعد التهنئة من مكارم الأخلاق ومن محاسن المظاهر الاجتماعية بين المسلمين، كما أنها سبب في إشاعة الود والألفة والمحبة بين الناس. عن جبير بن نفير، قال : كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم إذا التقوا يوم العيد يقول بعضهم لبعض، تقبل الله منا ومنك. قال الحافظ ابن حجر : إسناده حسن. - إظهار الفرح والسرور: يباح اللعب واللهو والغناء المباح والأكل والشرب وغير ذلك مما يدخل البهجة في النفوس. روى الأئمة البخاري ومسلم في صحيحيهما والنسائي في سننه من حديث أم المؤمنين عائشة الصديقية رضي الله عنها قالت: دخل عليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وعندي جاريتان تغنيان بغناء بُعاث، فاضطجع على الفراش وحول وجهه، ودخل أبو بكر فانتهرني، وقال: مزمار الشيطان عند النبي صلى الله عليه وسلم؟ فأقبل عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ((دعهما))، فَلَمَّا غَفَلَ غَمَزْتُهُمَا فَخَرَجَتَا، وَكَانَ يَوْمَ عِيدٍ يَلْعَبُ السُّودَانُ بِالدَّرَقِ وَالْحِرَابِ فَإِمَّا سَأَلْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِمَّا قَالَ: تَشْتَهِينَ تَنْظُرِينَ فَقُلْتُ: نَعَمْ، فَأَقَامَنِي وَرَاءَهُ خَدِّي عَلَى خَدِّهِ وَهُوَ يَقُولُ: ((دُونَكُمْ يَا بَنِي أَرْفِدَةَ)) حَتَّى إِذَا مَلِلْتُ، قَالَ : ((حَسْبُكِ)) ، قُلْتُ : نَعَمْ ، قَالَ : ((فَاذْهَبِي)). قال ابن الأثير في جامع الأصول: "(تغنيان) أراد الغناء هاهنا: أنهما كانتا تنشدان شعرا، لم يرد الغناء الذي هو ذكر الخنا والفحش والتعريض للنساء. - صلة الأرحام: العيد فرصة لصلة الأرحام، ففيها الخير الكثير والنفع العميم والبركة في العمر. ** مسك الختام: عظيمة تلك المعاني.. جليلة تلك الدلالات التي يرشدنا إليها العيد.. منها أن العيد يعود فيمنح الأمل لمن فقده.. إنها لحظات سعادة تتلألأ في الحياة.. تحنو على الفقير.. وتسعد المحتاج.. وتريح المتعب؛ لذا فمن سنن العيد أن يحرص المسلم على إدخال السرور على نفسه وعلى أسرته، وعلى من حوله بما أباحه الله تعالى وهو بحمد لله كثير: يصل رحمه فيكتمل السرور.. يخرج زكاة فطره فيتم تفاعل المجتمع ويعين الفقراء على تجاوز محنهم.. ويهنئ إخوانه : تقبل الله منا ومنكم.. والفائز غدا من كانت كل أيامه أعيادا بطاعته لربه وذكره له واجتنابه للذنوب والمعاصي.. ((الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله ألا بذكر الله تطمئن القلوب))[الرعد: 28]، أولئك يعيشون عيدا دائما. تقبل الله منا ومنكم وأعاد هذا العيد على أمتنا وهي معززة مكرمة منصورة بإذن الله. وعيدكم مبارك سعيد.