حاوره: د.رشيد كهوس مجلة الفرقان الأردنية: العدد 75، ربيع الآخر 1429-نيسان (أبريل) 2008م. يكتسب الحديث عن القراءاتِ الجديدة للقرآن وحفظِ الله له والشبهاتِ التي أُثيرت حوله وترجماتِهِ وواجبِ الأمة نحوه.. أهميةً بالغة. واستجلاء لهذا الأمور أجرينا حواراً مع مَعْلَمٍ من معالم المغرب: فضيلة الشيخ المحقق الدكتور أبو أسامة المصطفى عبد القادر غانم السَّكُّوني الحسني الفجيجي، وقبل أن نلج باب هذا الحوار نُعَرِّف بهذا المعلم في سطور موجزة: ضيفنا من علماء المغرب الأقصى، حاصل على إجازات شرعية من كبار علماء الغرب الإسلامي ومشرقه، في علوم القرآن والحديث والقراءات والعقيدة والفقه والأصول والنحو والتاريخ والأدب والفلك والمنطق. وهو أستاذ علوم القرآن والحديث بجامعة محمد الأول بـ(وجدة)، نال درجة (دكتوراه الدولة) في الدراسات الإسلامية بامتياز؛ بتحقيقه لكتاب "العقد المنظم للحكام" لابن سلمون الغرناطي. تخرج على يديه جم غفير من طلاب العلم، وأشرف على عدد من البحوث والرسائل، وله نشاط علمي حول الديانات والتدين الشعبي بجامعة (برشلونة) بإسبانيا، وله مجلس الجمعة في بيته العامر، ويُعِدُّ مشروعاً ضخماً لم يسبق له مثيل في علوم الحديث. له من المؤلفات الكثير؛ منها: "مدرسة الحديث بالغرب الإسلامي من الفتح حتى نهاية القرن الثالث الهجري"، و"برامج العلماء وفهارسهم وإجازاتهم وأثرها في توثيق النص الحديثي مع تحقيق فهرسة الشيخ القادري"، و"مقدمة الشفا للقاضي عياض" بالعربية والفرنسية، و"مقدمة صحيح الإمام البخاري" بالعربية والفرنسية، و"مقدمة صحيح الإمام مسلم" بالعربية والفرنسية، و"التذكرة بمنهج السيرة - سيرة ذاتية"، و"الإفصاح عن افتتاح أصح الصحاح"، و"حاجة الخطيب إلى علم الحديث"، و"المختار من حديث النبي المختار"، و"الأربعين المزكية"، و"الحديث الحسن - تعريفه وأقسامه ومظانّه"، وغيرها.. الفرقان: يقول تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ}[الحجر:9]. فضيلة الشيخ، نود منك أن تسلط الضوء على هذه الآية الكريمة، لنستضيء بنورها، ونرد بضاعة أهل الزيغ إليهم، وهم يدعون إلى قراءة جديدة للقرآن الكريم توافق مآربهم وأهواءهم. د. الحسني: لقد سألتني عن آية عظيمة لها في نفس المؤمن وقع كبير وإجلال وتعظيم، وهي في المقابل تحدث زلزلة عظمى في نفوس أولئك الذين في قلوبهم مرض؛ من المنافقين والمشركين وأهل الديانات الذين يحاربون الله ورسوله، ولا يرتاحون إلى كون (الذِّكر) الوارد في الآية هو القرآن، وسبب عدم ارتياحهم أن هذه الآية تردُّ على ما يدَّعونه من أن القرآن محرَّف ولم يُحفظ. فأهل الدراية يدركون أن (الذِّكر) هنا يُقصد به القرآن الكريم. قال الطبري: "يقول تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ} وهو القرآن {وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} وإنا للقرآن لحافظون مِن أن يُزاد فيه باطل ما ليس منه، أو ينقص منه ما هو منه؛ من أحكامه وحدوده وفرائضه". وقال ابن عاشور: "وكان هذا الجواب من نوع القول بالموجب، بتقرير إنزال الذكر على الرسول صلى الله عليه وسلم مجاراة لظاهر كلامهم. والمقصود الردّ عليهم في استهزائهم؛ فأكد الخبر بـ{إنا} وضمير الفصل مع موافقته لما في الواقع، كقوله: {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ الله وَالله يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَالله يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ} [المنافقون:1]. ثم زاد ذلك ارتقاء ونكاية لهم بأنَّ مُنْزِل الذكر هو حافظه من كيد الأعداء؛ فجملة: {وإنا له لحافظون} معترضة، والواو اعتراضية. والضمير المجرور باللام عائد إلى {الذكر}، واللام لتقوية عمل العامل لضعفه بالتأخير عن معموله. وشمل حفظه: الحفظ من التلاشي، والحفظ من الزيادة والنقصان فيه؛ بأن يَسَّر تواتره وأسباب ذلك، وسلّمه من التبديل والتغيير؛ حتى حفظته الأمّة عن ظهور قلوبها من حياة النبي صلى الله عليه وسلم؛ فاستقرّ بين الأمّة بمسمع من النبي صلى الله عليه وسلم، وصار حفّاظه بَالغين عدد التواتر في كل مصر". وهناك دليل آخر هو أن المشركين أنفسهم أطلقوا لفظة (الذكر) وقصدوا بها القرآن الكريم، وذلك في قولهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم: {وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ} [الحجر:6]. ومعلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم لم تنزل عليه كتب غير القرآن. وإذ وعد الله هنا بحفظ هذا القرآن؛ أخبرنا سبحانه بأنه وكل اليهود بحفظ التوراة: {إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدىً وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ الله وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ الله فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة:44]. ولكنهم لم يمتثلوا لأمره؛ فأضافوا في كتابه المنزل وأنقصوا منه؛ لذلك تجد فيه الكثير من الجمل غير المفيدة، والنصوص المبتورة، وأخرى حذفت منها جمل وألفاظ ووضع مكانها نقط! فمعنى الآية إذن أن الله سبحانه نزَّل القرآن وحفظه من أي زيادة أو نقص أو تبديل، بدليل قوله تعالى: {وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ . لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [فصلت: 41-42]. وأما من سمَّيتَهم بأهل الزيغ، ومحاولاتهم الفاشلة للتشويش على القرآن الكريم؛ فكن مطمئن البال، ولا تخش شيئاً، مادام الله قد تكفل بحفظ كتابه الكريم، وقد حفظه منذ البداية من محاولات باءت بالفشل لعُتاةٍ هم أشد عداوة وضراوة، وأكثر قدرة على التغيير والتحريف؛ لعلمهم وتمكنهم، وكيف يتأتى ذلك لهؤلاء الصبيان -صبيان العلم والمعرفة-؟! إنه غرور ما فوقه غرور، وحالهم كما قال الشاعر: كناطح صخرة يوما ليوهنها فلم يضرها وأوهى قرنه الوعل وأما الدعاة إلى القراءة الجديدة للقرآن الكريم فلا ضير في ذلك؛ بل نحن معهم في ذلك؛ إذ القرآن في طبيعته المعجزة معطاء، وعباراته ولود، وهي غزيرة المعاني ومتجددة ولا يحيط بفحواها ومعانيها إلا الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم والراسخون في العلم من أهل العصور المتعاقبة إلى أن تقوم الساعة. كل راسخ في العلم من أهل الإيمان والصادعين للحق يدرك معنى؛ فيُضاف إلى المعاني الأخرى التي يدركها الراسخ الآخر، إما في العصر نفسه وإما في العصور المتلاحقة، ولهذا قال تعالى: {وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ} [يوسف:76]. وهذا هو السر في أن جميع ما تتوصل إليه البشرية -من الفهوم والاكتشافات العلمية- يجد له الممعنون في النظر أصلاً في هذا الكتاب المعجز المحفوظ من قبل الله تعالى، دون حاجة إلى تغيير عباراته أو حذف جمله، كما هو الشأن في الكتب الأخرى التي يتم التحريف فيها بالحذف والزيادة والقلب كل وقت وحين؛ لتوافق زمانهم وهواهم أيضاً! وفي المقابل نرفض الدعوة إلى القراءة الجديدة التي تدعو إلى تعطيل الآيات التي تتعارض مع هواهم أو محاولة تفسيرها بما يتعارض مع روح الشريعة، أو تلك القراءات التي تزعم بأن أحكاماً وآيات ينبغي أن تحذف من القرآن لأنها زائدة أو لا تصلح لزماننا؛ فذلك محض افتراء، ورغبة منهم في تحريف القرآن ليستدلوا به على أن القرآن لم يُحفظ من عند الله! الفرقان : هل تدخل السنة النبوية في هذا الحفظ؟ د. الحسني: نعم، وهل في ذلك شك؟! قال سبحانه: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [النحل:44]. فما دامت السنة مبيِّنة للقرآن، وما دامت مَهَمَّة التبيين موكولة لرسول الله بنص القرآن؛ فحفظُ المبيَّن -بفتح الياء- يستلزم حفظ المبيِّن -بكسرها-، وإلا فما فائدة حفظ الأول إذا لم يتبيَّنهُ المأمورون به، وما دام التبيين جزءاً من المبيَّنِ -وهو محفوظ من قبل الله- يكون الجزء الملازم للكل محفوظاً أيضاً منه تعالى عقلاً. وقد دلَّ على هذا قوله سبحانه: {إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ . فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرآنه . ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} [القيامة: 17-19]؛ أي بيان القرآن وإيضاحه علينا، ويستلزم من ذلك حفظ هذا البيان، وهو السنة. يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "فإن الدين محفوظ بحفظ الله له، ولما كانت ألفاظ القرآن محفوظة منقولة بالتواتر؛ لم يطمع أحد في إبطال شيء منه، ولا في زيادة شيء فيه، بخلاف الكتب التي قبله. قال تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ}. بخلاف كثير من الحديث طمع الشيطان في تحريف كثير منه وتغيير ألفاظه بالزيادة والنقصان والكذب في متونه وإسناده؛ فأقام الله له من يحفظه ويحميه، وينفي عنه تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين؛ فبينوا ما أدخل أهل الكذب فيه، وأهل التحريف في معانيه". وقد حفظ الله السنة في الصدور وبطون الكتب؛ بما هيأه سبحانه لهذا الحفظ من جهابذة العلماء الذين بذلوا جهوداً عظيمة، فابتكروا وسائل ومهارات وطرائق في غاية الإتقان؛ يحصل بها تمييز الصحيح من السقيم. ونظرة فاحصة في تراجم أئمة الحديث؛ يدرك اللبيب من ورائها أن تلك الخصائص التي امتازوا بها دون غيرهم هي ثمرة حفظ الله تعالى لشرعه المنزل على محمد صلى الله عليه وسلم في صورتين هما: الوحي المتلو -وهو القرآن الذي جعل الله حفظه إليه-، والوحي غير المتلو -وهو السنة التي حفظها الله بتهيئة أولئك الأئمة الذين بذلوا جهوداً عظيمة في حفظها والذب عنها-. يقول ابن تيمية: "فما في تفسير القرآن أو نقل الحديث أو تفسيره من غلط؛ فإن الله يقيم له من الأمة من يبينه، ويذكر الدليل على غلط الغالط وكذب الكاذب، فإن هذه الأمة لا تجتمع على ضلالة، ولا يزال فيها طائفة ظاهرة على الحق حتى تقوم الساعة؛ إذ كانوا في آخر الأمم فلا نبي بعدهم ولا كتاب بعد كتابهم، وكانت الأمم قبلهم إذا بدَّلوا وغيَّروا بعث الله نبيّاً يبين لهم ويأمرهم وينهاهم، ولم يكن بعد محمد صلى الله عليه وسلم نبي، وقد ضمن الله أن يحفظ ما أنزله من الذكر، وأن هذه الأمة لا تجتمع على ضلالة؛ بل أقام الله لهذه الأمة في كل عصر من يحفظ به دينه". الفرقان: أثار دعاة التغريب مؤخَّراً شبهات تهدف إلى القضاء على مقدسات الإسلام مثل شبهة أن المصحف العثماني تنقصه بعض الآيات، وشبهة كتابة القرآن باللغة العالمية وإحلال الأحرف اللاتينية مكان العربية، وشبهة (فرقان الحق).. ما ردُّكم عليها؟ د. الحسني: ثق بأنه ليس لأي شبهة مهما عظمت قدرة على القضاء على مقدسات الإسلام، بل من الإعجاز أن تتحول تلك الشبهات بأسرها -وهو الذي حصل بالفعل- إلى مقويّات خارجية تؤكد سلامة المقدسات، وتدفع بالمتهاونين من أبنائها إلى البحث والتنقيب؛ مما يثمر العجب العجاب من الأدلة التي تؤكد قوة هذا الدين الذي تكفَّل الله بحفظه.. وكأن تلك الشبهات عبارة عن أدوات لتلميع هذا الدين فحسب؛ كالذهب الخالص كلما صقلته ازداد نصاعة! واعلم أن الدعوة لكتابة المصحف باللغة العالمية متى تحققت؛ فهي دليل قوة هذا الكتاب وانتصار له! وقد استُفتِيتُ في هذا فأفتيت بالجواز؛ لأن الكثير ممن يحاكم الإسلام لا يحاكمه من أصوله لجهله بها، وإنما يحاكمه بما تعلمه من الاستشراق ودعاة السياسة المهيمنة، شريطة أن يكتب المصحف باللغة العربية أولاً، وتحت كل سطر بالعربية يكتب ما يقابله باللغة العالمية التي تحافظ على موسيقى الحروف والألفاظ والجمل كما هي في اللغة العربية، ولا يضر كتابتها بالأحرف اللاتينية أبداً، بل سيخدم هذا المصحف والدين معاً، وسيكون ذلك وسيلة جديدة تضاف إلى الوسائل الأخرى التي هيأها الله تعالى ليحفظ بها دينه وشريعته. أما ما يزعمه المتطفلون على مائدة القرآن من أن مصحف عثمان به نقص؛ فيكفي للرد عليهم قولنا لهم: من أين أتيتم بهذا؟! هل من وحي نزل عليكم؟! أم هو من شيطانكم؟! أم أخذتموه من التراث؟! وبما أنه لا وحي ينزل عليكم؛ فيبقى أنه من وحي الشيطان، وهذا لا يُعتد به؛ لأن الله قد فضحه وبيّن خبثه في الذكر الحكيم. ويسلم لكم ما أخذتموه من التراث، وهنا نسألكم: ما دليلكم على سلامة هذا التراث الذي تعتدون به وتتخذونه حجة؟! ومهما برهنتم على سلامته فسنقبل ذلك منكم؛ لأننا نقول بذلك أيضاً. وعليه، فإن سلامة المصحف ستكون أقوى، وحفظه يكون أتم؛ لأن المصحف لا يخص الواحد والاثنين وإنما هو للناس كافة، والذي يشترك فيه الجميع لا يستطيع الواحد -مهما أوتي من قوة- أن ينفرد به بزيادة أو نقصان أو قلب.. ومصحف عثمان لو كان فيه أي خلل لاستغله من سبقكم من ذوي الأهواء، وهم أعلم منكم وأحقد، ولقوَّضوا به صرح هذه الأمة منذ زمن؛ لأن ذلك كان هدفهم! وبما أنهم لم يفلحوا فهيهات أن تفلحوا وأنتم أقل شأناً منهم، فحافظوا على سلامة قرونكم لا تتحطم! أما (فرقان الحق) فلا أعرفه! ولا تعنيني معرفته؛ لأن الحق ضائع عند أهل الحق، فما بالك بمن لا يعرفه أبداً؟! ومن تولى وضعه سيقع له ما وقع لسجاح ومسيلمة الكذاب! فلا تُضيِّع وقتك بالانشغال به، وموته محقق إن لم يكن بالفعل قد مات قبل ميلاده! الفرقان: إضافة إلى الشبهات السابقة هناك دعوات لترجمة القرآن الكريم إلى اللغات الأخرى، هل هذه الدعوات سليمة، وخصوصاً أنها تدعو إلى ترجمة القرآن لا معاني القرآن، وما موقف الشرع من هذه الدعوات؟ د. الحسني: الترجمة وسيلة هامة لتحقيق التواصل بين الناس، وبما أن القرآن الكريم خاطب به الله تعالى الناسَ كافة، فلا بأس من تقريب معانيه إليهم بأي لغة، إلا أن المقرر هو أنه لن يستطيع مترجم -مهما أوتي من قوة وتمكن في اللغة العربية واللغة التي يترجم إليها- أن يترجم القرآن ترجمة وافية، بل أستطيع الجزم بأنه لن يستطيع ترجمة معاني القرآن ترجمة جامعة مانعة، وإنما ترجمته تكون تقريبية، تحقق للعقول الناطقة بتلك اللغة -وهي لا تعرف شيئاً عن الإسلام- بعض التصور الذي يحقق لها الحكم الصائب؛ لأن الحكم على الشيء فرع عن تصوره. وهذا العمل مقبول شرعاً، بل مطلوب؛ لأنه يحقق أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم القائل: "بلِّغوا عني ولو آية"، شريطة أن يتولى هذه الترجمة متمكن وأمين ونزيه، مع مراجعتها مراجعة دقيقة من ذوي الاختصاص في اللغتين. ونتيجة الترجمة واضحة؛ فكم من مُعادٍ اهتدى إلى الرشد باطلاعه على القرآن بمعرفة بعض معانيه، فدخل الإسلام، واجتهد بعد ذلك، فتعلم اللغة العربية ليقرأ القرآن بلغته الأم فازداد إيماناً وإعجاباً! إذن لا معنى للمنع، ولا خشية على القرآن من ذلك، مادام محفوظاً في الصدور والسطور والآلات المتنوعة، وما دامت العلوم الحافظة له -مجموعاً ومفككاً- محفوظة ومتداولة أيضاً (أقصد: علوم القرآن والتفسير والقراءات والتجويد، وقد أسهمت العلوم الأخرى في هذا الحفظ: الحديث والفقه والأصول واللغة والعقائد..). الفرقان:كل الشبهات غرضها انتهاك حرمة اللغة العربية -التي بانتهاكها يُنتهك القرآن-، فهل العربية مقدسة لذاتها، أم لكون القرآن نزل بها؟ د. الحسني: ما ذهبتَ إليه صحيح، ولكن هل تحقق شيء من ذلك في الواقع؟ قطعاً لا. فاللغة العربية تحمل معها قوتها، وأسس قيوميتها من الداخل؛ ولهذا اختارها الله تعالى لتكون لغة كتابه الخاتم. وإن كانت لها قداسة فمن هذه الناحية؛ لأن كلام الله أُنزل بها. وثق بأنه لا توجد في العالم قديماً ولا حديثاً لغة ثرية كالعربية، وهي ولود وقواعدها عجيبة لا تعجز عن الاستمرار في الحياة. ويكفي أن تعلم أن مادتها المحصية -وليست هي كل المادة ما دام الجهد في الإحصاء فرديّاً-: ثمانين ألفاً عند ابن منظور في "اللسان"، ومئة ألف عند الفيروزآبادي في "القاموس"، وأربعون ومئة ألف عند الزَّبِيدي في "تاج العروس"! وإذا علمت أن كل جذر من هذه الجذور يمكن أن تتولد منه ألفاظ جديدة، ثم تشتق من هذه الألفاظ المتولدة ألفاظ غير تلك الألفاظ.. وهكذا دواليك؛ أدركت السر من وراء نزول القرآن باللغة العربية. وأذكر لك بعضاً من هذا السر، وهو أن القرآن نزل للناس كافة، وهو صالح لكل زمان ومكان؛ بحيث إن ألفاظه تتضمن جنس أجناس المعاني التي يمكن أن تهم البشرية جمعاء إلى أن تقوم الساعة، وإلا انتهت صلاحيته بالإحاطة بمعناه، وهذا لم يتحقق بعد؛ ولهذا حرَّم العلماء أن تقول: (قال الله تعالى فيما معناه). وأضيف لك أن ما استعمله العرب من هذا الكم الهائل من المادة اللغوية لا يزيد عن الألف! فإذا حذفناه من الأربعين والمئة ألف يبقى تسعة وثلاثون ومئة ألف مادة خاماً في بطون المعاجم تنتظر من يفتقها ويستعملها! وما دام الأمر هكذا؛ فَلِمَ تُرم اللغة العربية بالعقم والعجز، وهذا الرامي لم يستوعب منها حتى الألف المستعملة؟! إذن، اللغة العربية مقدسة بقداسة القرآن، ولها فضلها العظيم لخصائصها. ولله درُّ حافظ إبراهيم إذ يقول بلسانها: أنا البحر في أحشائه الدر كامنٌ فهلا سألوا الغواص عن صدفاتي الفرقان: قلتَ مرَّةً حاكياً عن العالم الجليل محمود محمد شاكر -في إحدى مجالسه بمنزله- لَمّا قرأ كلمة تم تصحيفها في كتاب محقق؛ فغضب غضباً شديداً! ما السر الذي جعل هذا العالم الجليل الملقب بـ(حجة العربية) يغضب لهذا الحد؟! د. الحسني: أمثال الشيخ أبي فهر محمود شاكر نادرون في هذا الزمان! فهو رجل يُذكِّرك بالأصمعي والخليل وابن قتيبة والجاحظ.. في إحاطتهم باللغة العربية، ويذكرك بالقراء والمحدِّثين الكبار في غيرتهم على القرآن والسنة، وسعيهم التام للحفاظ عليهما من الدَّخَل والتزوير. ولهذا لَمّا وقف رحمه الله على ذلك الخطأ الذي وقع فيه مُحقِّق كتاب "المقتطف من أزاهر الطرف" لابن سعيد المغربي، حيث قرأ قوله: "في بيتي أفعى حارية" (التي كبر سنها ولم يبق فيها إلا العظام)، قرأها المحقق: "أفعى جاربة" -بجيم معجمة وباء موحد-! ورجح في الهامش: (جارية) -بالجيم وتحتية مثناة (الياء)-! وكلاهما خطأ!! لَمَّا وقع نظره على ذلك صاح قائلاً: ضاع القرآن! بمعنى إذا ضُيِّعت العربية -وهي لغة القرآن- سيضيع القرآن لا محالة. وهذا حسٌّ لا يملكه إلا الأئمة أمثال هذا الرجل العظيم الذي لم يقدر بعد قدره. ومن هذا التصرف تدرك قيمة اللغة العربية ومدى ارتباطها بالقرآن الكريم. الفرقان: انطلاقاً من ذلك، ما واجب الأمة نحو القرآن، وما هي توصياتكم للحفاظ عليه؟ د. الحسني: الأمة الإسلامية تتحمل عبء الحفاظ على القرآن الكريم اليوم أكثر من ذي قبل، وأيُّ تفريط منها في ذلك يلقمها العلقم! وعليها أن توقن أن القرآن محفوظ بها أو بدونها، وهي عزيزة به لا هو عزيز بها. وما تراه أنت من ذلٍّ وهوان في الأمة الإسلامية، ومن تكالب الأعداء عليها، ما هو إلا نتاج أوَّلي للتقصير في العناية بكتاب الله حفظاً وفهماً وعملاً به. وهذا الكلام ليس على إطلاقه؛ لأن بوادر الخير موجودة، وإقبال الجيل الصاعد على حفظ الكتاب وإتقان علومه تجويداً ورسماً وقراءة وتفسيراً ثم عملاً، دليل على ذلك. وهنا أحث على اهتمام الجميع بالحفاظ على كتاب الله بجميع الوسائل، وترك القرآن مدويّاً في كل مكان؛ ليقرع الآذان ويكون حجة عليها. وبتكرار سماع القرآن الكريم بهذا الشكل يعجز محاولو التشويش عليه مهما حاولوا؛ لانتشاره واسعاً بين الجميع. وأحبُّ أن أنبه إلى أهمية القراءة الجماعية للقرآن؛ لما فيها من فائدة عظيمة تتجلى في ترسيخه وتيسير حفظه والتدرب على حسن أدائه، وتمنع وصمة الهجر التي جاءت في قوله تعالى: {وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً} [الفرقان:30]. وأصرح لك هنا بأني قد تعلَّمت القرآن في المسجد بالمواظبة على قراءة الحزب جماعة وأنا طفل لم أبلغ من العمر خمس سنوات! وأعرف أناساً حفظوا القرآن عن ظهر قلب وهم لا يعرفون كتابة اسمهم بسبب المواظبة على سماع القرآن في المساجد! ثم أحثُّ الجمعيات والجماعات الإسلامية والمنتديات الثقافية بالاشتغال بكتاب الله، وصرف الهمة إليه؛ ففيه كل ما يطلبون من خير في دنياهم وأخراهم. والحمد لله رب العالمين. حاوره: د.رشيد كهوس مجلة الفرقان الأردنية: العدد 75، ربيع الآخر 1429-نيسان (أبريل) 2008م. يكتسب الحديث عن القراءاتِ الجديدة للقرآن وحفظِ الله له والشبهاتِ التي أُثيرت حوله وترجماتِهِ وواجبِ الأمة نحوه.. أهميةً بالغة. واستجلاء لهذا الأمور أجرينا حواراً مع مَعْلَمٍ من معالم المغرب: فضيلة الشيخ المحقق الدكتور أبو أسامة المصطفى عبد القادر غانم السَّكُّوني الحسني الفجيجي، وقبل أن نلج باب هذا الحوار نُعَرِّف بهذا المعلم في سطور موجزة: ضيفنا من علماء المغرب الأقصى، حاصل على إجازات شرعية من كبار علماء الغرب الإسلامي ومشرقه، في علوم القرآن والحديث والقراءات والعقيدة والفقه والأصول والنحو والتاريخ والأدب والفلك والمنطق. وهو أستاذ علوم القرآن والحديث بجامعة محمد الأول بـ(وجدة)، نال درجة (دكتوراه الدولة) في الدراسات الإسلامية بامتياز؛ بتحقيقه لكتاب "العقد المنظم للحكام" لابن سلمون الغرناطي. تخرج على يديه جم غفير من طلاب العلم، وأشرف على عدد من البحوث والرسائل، وله نشاط علمي حول الديانات والتدين الشعبي بجامعة (برشلونة) بإسبانيا، وله مجلس الجمعة في بيته العامر، ويُعِدُّ مشروعاً ضخماً لم يسبق له مثيل في علوم الحديث. له من المؤلفات الكثير؛ منها: "مدرسة الحديث بالغرب الإسلامي من الفتح حتى نهاية القرن الثالث الهجري"، و"برامج العلماء وفهارسهم وإجازاتهم وأثرها في توثيق النص الحديثي مع تحقيق فهرسة الشيخ القادري"، و"مقدمة الشفا للقاضي عياض" بالعربية والفرنسية، و"مقدمة صحيح الإمام البخاري" بالعربية والفرنسية، و"مقدمة صحيح الإمام مسلم" بالعربية والفرنسية، و"التذكرة بمنهج السيرة - سيرة ذاتية"، و"الإفصاح عن افتتاح أصح الصحاح"، و"حاجة الخطيب إلى علم الحديث"، و"المختار من حديث النبي المختار"، و"الأربعين المزكية"، و"الحديث الحسن - تعريفه وأقسامه ومظانّه"، وغيرها.. الفرقان: يقول تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ}[الحجر:9]. فضيلة الشيخ، نود منك أن تسلط الضوء على هذه الآية الكريمة، لنستضيء بنورها، ونرد بضاعة أهل الزيغ إليهم، وهم يدعون إلى قراءة جديدة للقرآن الكريم توافق مآربهم وأهواءهم. د. الحسني: لقد سألتني عن آية عظيمة لها في نفس المؤمن وقع كبير وإجلال وتعظيم، وهي في المقابل تحدث زلزلة عظمى في نفوس أولئك الذين في قلوبهم مرض؛ من المنافقين والمشركين وأهل الديانات الذين يحاربون الله ورسوله، ولا يرتاحون إلى كون (الذِّكر) الوارد في الآية هو القرآن، وسبب عدم ارتياحهم أن هذه الآية تردُّ على ما يدَّعونه من أن القرآن محرَّف ولم يُحفظ. فأهل الدراية يدركون أن (الذِّكر) هنا يُقصد به القرآن الكريم. قال الطبري: "يقول تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ} وهو القرآن {وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} وإنا للقرآن لحافظون مِن أن يُزاد فيه باطل ما ليس منه، أو ينقص منه ما هو منه؛ من أحكامه وحدوده وفرائضه". وقال ابن عاشور: "وكان هذا الجواب من نوع القول بالموجب، بتقرير إنزال الذكر على الرسول صلى الله عليه وسلم مجاراة لظاهر كلامهم. والمقصود الردّ عليهم في استهزائهم؛ فأكد الخبر بـ{إنا} وضمير الفصل مع موافقته لما في الواقع، كقوله: {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ الله وَالله يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَالله يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ} [المنافقون:1]. ثم زاد ذلك ارتقاء ونكاية لهم بأنَّ مُنْزِل الذكر هو حافظه من كيد الأعداء؛ فجملة: {وإنا له لحافظون} معترضة، والواو اعتراضية. والضمير المجرور باللام عائد إلى {الذكر}، واللام لتقوية عمل العامل لضعفه بالتأخير عن معموله. وشمل حفظه: الحفظ من التلاشي، والحفظ من الزيادة والنقصان فيه؛ بأن يَسَّر تواتره وأسباب ذلك، وسلّمه من التبديل والتغيير؛ حتى حفظته الأمّة عن ظهور قلوبها من حياة النبي صلى الله عليه وسلم؛ فاستقرّ بين الأمّة بمسمع من النبي صلى الله عليه وسلم، وصار حفّاظه بَالغين عدد التواتر في كل مصر". وهناك دليل آخر هو أن المشركين أنفسهم أطلقوا لفظة (الذكر) وقصدوا بها القرآن الكريم، وذلك في قولهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم: {وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ} [الحجر:6]. ومعلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم لم تنزل عليه كتب غير القرآن. وإذ وعد الله هنا بحفظ هذا القرآن؛ أخبرنا سبحانه بأنه وكل اليهود بحفظ التوراة: {إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدىً وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ الله وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ الله فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة:44]. ولكنهم لم يمتثلوا لأمره؛ فأضافوا في كتابه المنزل وأنقصوا منه؛ لذلك تجد فيه الكثير من الجمل غير المفيدة، والنصوص المبتورة، وأخرى حذفت منها جمل وألفاظ ووضع مكانها نقط! فمعنى الآية إذن أن الله سبحانه نزَّل القرآن وحفظه من أي زيادة أو نقص أو تبديل، بدليل قوله تعالى: {وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ . لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [فصلت: 41-42]. وأما من سمَّيتَهم بأهل الزيغ، ومحاولاتهم الفاشلة للتشويش على القرآن الكريم؛ فكن مطمئن البال، ولا تخش شيئاً، مادام الله قد تكفل بحفظ كتابه الكريم، وقد حفظه منذ البداية من محاولات باءت بالفشل لعُتاةٍ هم أشد عداوة وضراوة، وأكثر قدرة على التغيير والتحريف؛ لعلمهم وتمكنهم، وكيف يتأتى ذلك لهؤلاء الصبيان -صبيان العلم والمعرفة-؟! إنه غرور ما فوقه غرور، وحالهم كما قال الشاعر: كناطح صخرة يوما ليوهنها فلم يضرها وأوهى قرنه الوعل وأما الدعاة إلى القراءة الجديدة للقرآن الكريم فلا ضير في ذلك؛ بل نحن معهم في ذلك؛ إذ القرآن في طبيعته المعجزة معطاء، وعباراته ولود، وهي غزيرة المعاني ومتجددة ولا يحيط بفحواها ومعانيها إلا الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم والراسخون في العلم من أهل العصور المتعاقبة إلى أن تقوم الساعة. كل راسخ في العلم من أهل الإيمان والصادعين للحق يدرك معنى؛ فيُضاف إلى المعاني الأخرى التي يدركها الراسخ الآخر، إما في العصر نفسه وإما في العصور المتلاحقة، ولهذا قال تعالى: {وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ} [يوسف:76]. وهذا هو السر في أن جميع ما تتوصل إليه البشرية -من الفهوم والاكتشافات العلمية- يجد له الممعنون في النظر أصلاً في هذا الكتاب المعجز المحفوظ من قبل الله تعالى، دون حاجة إلى تغيير عباراته أو حذف جمله، كما هو الشأن في الكتب الأخرى التي يتم التحريف فيها بالحذف والزيادة والقلب كل وقت وحين؛ لتوافق زمانهم وهواهم أيضاً! وفي المقابل نرفض الدعوة إلى القراءة الجديدة التي تدعو إلى تعطيل الآيات التي تتعارض مع هواهم أو محاولة تفسيرها بما يتعارض مع روح الشريعة، أو تلك القراءات التي تزعم بأن أحكاماً وآيات ينبغي أن تحذف من القرآن لأنها زائدة أو لا تصلح لزماننا؛ فذلك محض افتراء، ورغبة منهم في تحريف القرآن ليستدلوا به على أن القرآن لم يُحفظ من عند الله! الفرقان : هل تدخل السنة النبوية في هذا الحفظ؟ د. الحسني: نعم، وهل في ذلك شك؟! قال سبحانه: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [النحل:44]. فما دامت السنة مبيِّنة للقرآن، وما دامت مَهَمَّة التبيين موكولة لرسول الله بنص القرآن؛ فحفظُ المبيَّن -بفتح الياء- يستلزم حفظ المبيِّن -بكسرها-، وإلا فما فائدة حفظ الأول إذا لم يتبيَّنهُ المأمورون به، وما دام التبيين جزءاً من المبيَّنِ -وهو محفوظ من قبل الله- يكون الجزء الملازم للكل محفوظاً أيضاً منه تعالى عقلاً. وقد دلَّ على هذا قوله سبحانه: {إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ . فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرآنه . ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} [القيامة: 17-19]؛ أي بيان القرآن وإيضاحه علينا، ويستلزم من ذلك حفظ هذا البيان، وهو السنة. يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "فإن الدين محفوظ بحفظ الله له، ولما كانت ألفاظ القرآن محفوظة منقولة بالتواتر؛ لم يطمع أحد في إبطال شيء منه، ولا في زيادة شيء فيه، بخلاف الكتب التي قبله. قال تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ}. بخلاف كثير من الحديث طمع الشيطان في تحريف كثير منه وتغيير ألفاظه بالزيادة والنقصان والكذب في متونه وإسناده؛ فأقام الله له من يحفظه ويحميه، وينفي عنه تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين؛ فبينوا ما أدخل أهل الكذب فيه، وأهل التحريف في معانيه". وقد حفظ الله السنة في الصدور وبطون الكتب؛ بما هيأه سبحانه لهذا الحفظ من جهابذة العلماء الذين بذلوا جهوداً عظيمة، فابتكروا وسائل ومهارات وطرائق في غاية الإتقان؛ يحصل بها تمييز الصحيح من السقيم. ونظرة فاحصة في تراجم أئمة الحديث؛ يدرك اللبيب من ورائها أن تلك الخصائص التي امتازوا بها دون غيرهم هي ثمرة حفظ الله تعالى لشرعه المنزل على محمد صلى الله عليه وسلم في صورتين هما: الوحي المتلو -وهو القرآن الذي جعل الله حفظه إليه-، والوحي غير المتلو -وهو السنة التي حفظها الله بتهيئة أولئك الأئمة الذين بذلوا جهوداً عظيمة في حفظها والذب عنها-. يقول ابن تيمية: "فما في تفسير القرآن أو نقل الحديث أو تفسيره من غلط؛ فإن الله يقيم له من الأمة من يبينه، ويذكر الدليل على غلط الغالط وكذب الكاذب، فإن هذه الأمة لا تجتمع على ضلالة، ولا يزال فيها طائفة ظاهرة على الحق حتى تقوم الساعة؛ إذ كانوا في آخر الأمم فلا نبي بعدهم ولا كتاب بعد كتابهم، وكانت الأمم قبلهم إذا بدَّلوا وغيَّروا بعث الله نبيّاً يبين لهم ويأمرهم وينهاهم، ولم يكن بعد محمد صلى الله عليه وسلم نبي، وقد ضمن الله أن يحفظ ما أنزله من الذكر، وأن هذه الأمة لا تجتمع على ضلالة؛ بل أقام الله لهذه الأمة في كل عصر من يحفظ به دينه". الفرقان: أثار دعاة التغريب مؤخَّراً شبهات تهدف إلى القضاء على مقدسات الإسلام مثل شبهة أن المصحف العثماني تنقصه بعض الآيات، وشبهة كتابة القرآن باللغة العالمية وإحلال الأحرف اللاتينية مكان العربية، وشبهة (فرقان الحق).. ما ردُّكم عليها؟ د. الحسني: ثق بأنه ليس لأي شبهة مهما عظمت قدرة على القضاء على مقدسات الإسلام، بل من الإعجاز أن تتحول تلك الشبهات بأسرها -وهو الذي حصل بالفعل- إلى مقويّات خارجية تؤكد سلامة المقدسات، وتدفع بالمتهاونين من أبنائها إلى البحث والتنقيب؛ مما يثمر العجب العجاب من الأدلة التي تؤكد قوة هذا الدين الذي تكفَّل الله بحفظه.. وكأن تلك الشبهات عبارة عن أدوات لتلميع هذا الدين فحسب؛ كالذهب الخالص كلما صقلته ازداد نصاعة! واعلم أن الدعوة لكتابة المصحف باللغة العالمية متى تحققت؛ فهي دليل قوة هذا الكتاب وانتصار له! وقد استُفتِيتُ في هذا فأفتيت بالجواز؛ لأن الكثير ممن يحاكم الإسلام لا يحاكمه من أصوله لجهله بها، وإنما يحاكمه بما تعلمه من الاستشراق ودعاة السياسة المهيمنة، شريطة أن يكتب المصحف باللغة العربية أولاً، وتحت كل سطر بالعربية يكتب ما يقابله باللغة العالمية التي تحافظ على موسيقى الحروف والألفاظ والجمل كما هي في اللغة العربية، ولا يضر كتابتها بالأحرف اللاتينية أبداً، بل سيخدم هذا المصحف والدين معاً، وسيكون ذلك وسيلة جديدة تضاف إلى الوسائل الأخرى التي هيأها الله تعالى ليحفظ بها دينه وشريعته. أما ما يزعمه المتطفلون على مائدة القرآن من أن مصحف عثمان به نقص؛ فيكفي للرد عليهم قولنا لهم: من أين أتيتم بهذا؟! هل من وحي نزل عليكم؟! أم هو من شيطانكم؟! أم أخذتموه من التراث؟! وبما أنه لا وحي ينزل عليكم؛ فيبقى أنه من وحي الشيطان، وهذا لا يُعتد به؛ لأن الله قد فضحه وبيّن خبثه في الذكر الحكيم. ويسلم لكم ما أخذتموه من التراث، وهنا نسألكم: ما دليلكم على سلامة هذا التراث الذي تعتدون به وتتخذونه حجة؟! ومهما برهنتم على سلامته فسنقبل ذلك منكم؛ لأننا نقول بذلك أيضاً. وعليه، فإن سلامة المصحف ستكون أقوى، وحفظه يكون أتم؛ لأن المصحف لا يخص الواحد والاثنين وإنما هو للناس كافة، والذي يشترك فيه الجميع لا يستطيع الواحد -مهما أوتي من قوة- أن ينفرد به بزيادة أو نقصان أو قلب.. ومصحف عثمان لو كان فيه أي خلل لاستغله من سبقكم من ذوي الأهواء، وهم أعلم منكم وأحقد، ولقوَّضوا به صرح هذه الأمة منذ زمن؛ لأن ذلك كان هدفهم! وبما أنهم لم يفلحوا فهيهات أن تفلحوا وأنتم أقل شأناً منهم، فحافظوا على سلامة قرونكم لا تتحطم! أما (فرقان الحق) فلا أعرفه! ولا تعنيني معرفته؛ لأن الحق ضائع عند أهل الحق، فما بالك بمن لا يعرفه أبداً؟! ومن تولى وضعه سيقع له ما وقع لسجاح ومسيلمة الكذاب! فلا تُضيِّع وقتك بالانشغال به، وموته محقق إن لم يكن بالفعل قد مات قبل ميلاده! الفرقان: إضافة إلى الشبهات السابقة هناك دعوات لترجمة القرآن الكريم إلى اللغات الأخرى، هل هذه الدعوات سليمة، وخصوصاً أنها تدعو إلى ترجمة القرآن لا معان